التَّعلُّمُ القّبليُّ
- الاختلاف في الرأي بين الناس سُنَّة من سُنَن الله تعالى في خَلْقه، وظاهرة اجتماعية، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).
- فقد خلق الله تعالى الناس مختلفين في اللغات والألوان والأعراف والثقافات، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ)، وفي الأعراق، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).
الفَهمُ والتَّحليلُ
- الاختلاف في الرأي بين الناس تُجاه القضايا والأشياء والأشخاص، هو تنوع في الآراء بسبب تباين أفهام الناس، وأفكارهم، وطبائعهم، وثقافاتهم، ومعتقداتهم.
أولًا: سبب الاختلاف في الرأي
الاختلاف في الرأي بين الناس أمر طبيعي، ويرجع سببه إلى اختلاف الناس وتفاوت أفهامهم، ومعتقداتهم، وقدراتهم العقلية والعلمية وأهدافهم ومصالحهم، وطريقة تفكيرهم.
ثانيًا: موقف الإسلام من الاختلاف في الرأي
- عَدّ الإسلام الاختلاف في الرأي الذي يكون سببه التفاوت في الفهم أمرًا مقبولًا بشرط أن لا يؤدي إلى العداوة أو الخصام.
- فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في فهم قول رسول الله ﷺ: "لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قريظَةَ".
- ففريق منهم أخَّر صلاة العصر حتى وصل إلى بني قريظة، وتمسك بظاهر قول رسول الله ﷺ.
- والفريق الآخر صلى العصر في وقتها، ونظر إلى المعنى المقصود من قول النَّبيُّ ﷺ وهو الإسراع في السير.
- وقد أقرَّ النَّبِيُّ ﷺ كلا الفريقين على اختلافهم في فهم قوله، ولم يعنف واحدًا منهم لأنهم اجتهدوا.
- وما مبدأ الشورى الذي قرره الإسلام إلا تأكيد لهذا الاختلاف المقبول، قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ).
- وما ظهور المذاهب الفقهية إلا نتيجة اختلاف العلماء في الرأي، إذ قدمت هذه المدارس الفقهية ثروة فقهية للحضارة الإنسانية.
- أما الاختلاف في الرأي الذي سببه الكِبْر والتعصب للأشخاص والأفكار، فهو أمر مذموم يؤدي إلى الفرقة و التنازع بين الناس، قال رسول الله ﷺ: "الكِبْر: بَطَرُ الحَقِّ وغَمطُ النّاسِ" (بَطَرُ: رَدّ، غَمطُ: احتقار)، وقال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ).
آثار الاختلاف المقبول في الرأي
ينتج من الاختلاف في الرأي المقبول فوائد عدة، منها:
- الإثراء الفكري وتبادل الأفكار.
- وتعدد الحلول للمشكلة الواحدة.
- وهو وسيلة للوصول إلى القرار السديد.
ثالثًا: آداب الاختلاف في الرأي
للاختلاف في الرأي آداب ينبغي للمختلفين التحلي بها؛ لكيلا يصل الاختلاف إلى الخلاف والنزاع والتنافر والفرقة والشقاق، ومن ذلك:
أ. قَبول مبدأ الاختلاف في الرأي:
- فالباحث عن الحق لا يتعصب لرأيه.
- وإن تبين له أنّ الحق مع مخالفه اتبعه.
- ويُقِرّ للآخر بحقه في إبداء رأيه، بعيدًا عن التعالي والاستهزاء أو الانتقاص من قدره أو فكره.
- وإن ثبت له أن رأي الآخر لا يوافق الصواب، فإنّ عليه أن يحترمه.
- فالإبقاء على الأخوّة مع الاختلاف في الرأي في المسائل الخلافية أولى من دفع المخالف إلى الشقاق والعداوة.
ب. العلم بموضوع الاختلاف:
فلا يحاور في موضوع يجهله، قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
ج. التثبت من قول المخالف:
- وذلك بالتبصر والأناة وعدم العجلة حتى يتضح الأمر، فيتحقق من صدق الناقل.
- وأنّ المنقول لا وجه له في الصحّة يقتضي قَبوله، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، وقال تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
د. ضبط النفس:
- وذلك بمخاطبة الناس بأدب ورفق وحلم.
- والبعد عن التقليل من شأن المخالف واتهامه بالفستق، قال رسول الله ﷺ: "ما شَيءٌ أَثقَلُ في ميزانِ المُؤمِنِ يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ليُبْغِضُ الفاحِشَ البَذيءَ"، (البَذيءَ: الذي يتكلمُ بما يُكْرَهُ سماعُه، أو مُنْ يُرسِلُ لسانَه بما لا ينبغي، واحتقارِ الغيرِ).
هـ. العدل والإنصاف:
- وذلك بأن يتبع الحق أيًّا كان صاحبه.
- ويكون بالاعتراف بالخطأ والرجوع إلى قَبول الحق من الآخر إذا تبيّن صوابه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
صور مشرقة
- أرسل الإمام مالك رحمه الله إمام أهل المدينة رسالة إلى الإمام الليث بن سعد رحمه الله إمام أهل مصر يناقشه فيها عن سبب عدم أخذ الليث بن سعد رحمه الله بعمل أهل المدينة الذي يأخذ به الإمام مالك رحمه الله.
- ومما جاء في رسالته: "أحمد الله إليك وعصمنا الله وإياك بطاعته وعافانا وإياكم من كل مكروه، وقد بلغني رحمك الله أنك تفتي الناس بأمور مخالفة لما عليه الناس عندنا، وأنت في أمانتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، فانظر رحمك الله في هذا الأمر، واعلم أنه ما دعاني إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة والحرص عليك، وفقنا الله وإياك لطاعته".
- فرد عليه الليث برسالة، ومما جاء فيها أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين قد اختلفوا بالفُتية في مسائل كثيرة، خالفوا فيها ما عليه أهل المدينة.
- وقال له:"بلغني كتابك الذي تذكر فيه صلاح حالكم الذي يسرني أدام الله ذلك عليك وأتمه بالعون على شكره والزيادة في إحسانه، قد جاءني كتابك، فجزاك الله عمّا قدمت خيرًا، وقد وقع كتابك مني بالموقع الذي تحب، والحمد لله رب العالمين".
الإثراءُ والتَّوسُّعُ
- أمر الإسلام بالألفة والاعتصام بحبل الله المتين، قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا).
- ونهى عن الفرقة والنزاع؛ لأن ذلك يؤدي إلى الفشل وذهاب القوة، وعجز الأمة عن القيام بوظيفتها في هداية الناس، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)، وقال رسول الله ﷺ: "لا تَباغَضوا ، ولا تَحاسَدوا ، ولا تَدابَروا، وكُونوا عِبادَ الله إخوانًا".
- كما حث الإسلام على إصلاح ذات البين قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)، فالجماعة والألفة أصل من أصول الدين.
دراسةٌ مُعمَّقةٌ
هناك العديد من الكتب والدراسات التي عُنيت بالاختلاف، منها كتاب (أدب الاختلاف في الإسلام)، حيث تناول حقيقة الاختلاف، وأسبابه، وأقسامه، وآدابه.
القيم المستفادة
1. أَحرِصُ على التزام آداب الاختلاف.
2. أحرصُ على الوحدة وأنبذ الفرقة.
3. أُخاطبُ الناس بأدب ورفق.