الفصل الأول : اليابان
برزت في العالم المعاصر عدد من القوى الاقتصادية العظمى التي كان لها تجارب نهضوية رائدة في ظل تنافس دولي شديد من أجل تحقيق تفوق اقتصادي وعلمي وتكنولوجي، للسيطرة على أسواق العالم، ومن بين هذه التجارب الرائدة التجربة اليابانية.
أولًا : موقع اليابان
تقع اليابان في أقصى الشرق من قارة آسيا، وتتكون من قرابة (4000)جزيرة صغيرة، ويطلق عليها "الأرخبيل الياباني" أي مجموعة الجزر اليابانية، وتبلغ مساحتها قرابة (378.0002كم)، وعدد سكانها يقارب (128)مليون نسمة، وتتميز الدولة بضآلة مواردها الطبيعية، وكثرة تعرضها للكوارث الطبيعية، كالأعاصير والزلازل والبراكين، وبطبيعتها الجبلية، ما أوجد حالة من التحدي لدى اليابانيين لمواجهة هذه الأوضاع، والتخفيف من آثارها. ولتعرف موقع اليابان انظر الخريطة المجاورة، |
ثانيًا : حركة النهضة اليابانية في القرن التاسع عشر
كانت اليابان تعيش في حالة من العزلة حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وبالرغم من أن ذلك أسهم في تماسك اندماج السكان اجتماعيًّا، إلا أنه أدى إلى حرمان اليابان من الأخذ بمظاهر الحضارة لدى الشعوب الأخرى مدة من الزمن، حتى قام الإمبراطور (موتسوهيتو) بحركته الإصلاحية التي عرفت بحركة ميجي (الحاكم المستنير) بعد مجيئه للحكم في عام 1868م، وتعد هذه الحركة بداية النهضة الفعلية في البلاد، وهدفت إلى كسر طوق العزلة التي عاشتها اليابان، وردم الفجوة الاقتصادية والعسكرية بين اليابان والغرب عن طريق الانفتاح التجاري والعلمي، ولا سيما مع التطور الذي وصل إليه الغرب وأطماعهم الاستعمارية في العالم، وسيطرتهم على الصين القريبة من اليابان.
ومن أهم المنجزات التي حققتها حركة ميجي ما يأتي: 1 - إلغاء الامتيازات العسكرية، وتقليص نفوذ السامـوراي، وتجـريـدهـم من امتيازاتهـم الإقطاعيــة، وتـوزيــع ممتلـكـاتهــم علـى الفالحين؛ ما أسهم فـي تكوين طبقـة من الفلاحين المنتجين. 2 - إحداث نهضة حقيقية في نظام التعليم، عن طريق التركيز على التاريخ القومي، وصبغ التعليم بالصبغة العسكرية. |
الساموراي هم الطبقة العسكرية في اليابان، ظهرت في القرن السابع عشر، تميزوا بمهاراتهم الحربية، وتمتعوا بامتيازات اجتماعية واقتصادية حتى مجيء الإمبراطور ميجي إلى الحكم الذي عمل على تقليص نفوذهم. |
استمرت حركة الانفتاح في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وأدت إلى استفادة اليابان من الأنظمة الغربية في مجالات التعليم والإدارة، ورفع كفاءة القطاع الصناعي، ونقل المعرفة التقنية، ما أدى تدريجيًّا إلى بروزها قوة شرقية شاركت في الحرب العالمية الثانية.
ثالثًا : اليابان في الحرب العالمية الثانية (1939- 1945 م) اتبعت اليابان سياسة عسكرية توسعية باحتلالها الصين في عام 1937م، وتحالفت مع دول المحور في الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1941م شنت هجومًّا جويًا على قاعدة بيرل هاربر الأمريكية في المحيط الهادي، فردت الولايات المتحدة الأمريكية بإعلانها الحرب على اليابان، وتبعتها بريطانيا، وفي العامين 1941-1942م احتلت اليابان الفلبين والهند الصينية (فيتنام ولاوس وكمبوديا) حتى تمكنت القوات البريطانية والأمريكية من إيقاف تقدم القوات اليابانية في جزر المحيط الهادي المقابلة لأستراليا، ونجحت في طرد اليابانيين من المناطق التي احتلوها حتى وصلوا إلى اليابان نفسها، فقامت الولايات المتحدة الأمريكية بإلقاء القنبلتين الذريتين على مدينتي ناغازاكي وهيروشيما، ما دفع اليابان إلى إعلان الاستسلام في 15 آب من عام 1945م، حيث أدى ذلك الانفجار إلى تدمير المدينتين، وقتل مئات الآلاف من السكان، إضافة إلى موت عشرات الآلاف في وقت لاحق بسبب التعرض للإشعاع النووي. كانت اليابان في حالة دمار شامل بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها بتصميم الشعب الياباني وعزيمته، وبقيادة إمبراطورها هيروهيتو بدأت حركة الإصلاح والبناء المنظم والسريع حتى أصبحت منذ السبعينات من القرن العشرين، في المراكز المتقدمة اقتصاديًا في العالم، وغدت قوة عظمى من ضمن الدول الثمانية الكبرى في العالم. |
رابعًا : عوامل النهضة اليابانية تضافرت عدة عوامل أدت إلى قيام النهضة اليابانية الحديثة من أهمها: 1 - تميز الشخصية اليابانية بالنشاط والانضباط والمثابرة واحترام الوقت والنظام والإخلاص في العمل، بسبب منظومة القيم التي تربى عليها الشعب الياباني وتمسكه بها. 2 - تحديث النظام الإداري وتطويره. 3 - جعل التعليم ركيزة أساسية لنهضة البلاد. 4 - تشجيــع الحكـومـــة اليابانـيـة المبــدعيــن والمخترعين، بدعمهم وتشويق اختراعاتهم. 5 - تشجيـع الاستثمار فـي الداخـل والخـارج عن طريق تقديم التسهيلات للمستثمرين، وإقامة المصانع خارج البلاد؛ للتخفيف من الحواجز الجمركية. 6 - التوجه نحو التصنيع، وتطوير التكنولوجيا بسبب ضعف الموارد الطبيعية في اليابان. |
خامسا : مظاهر التطور الحضاري في اليابان
1 -الإدارة في اليابان:
اتجهت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية إلى التركيز على تطوير القوى البشرية بصورة تحقق أهدافها بالحياة الكريمة للإنسان، وترتكز فلسفة الإدارة اليابانية على عدد من القيم والمبادئ التي مكنت الشركات من تحقيق مستوى عال من النجاح، ومن أهم هذه القيم:
أ - المنظومة الأخلاقية لليابانيين: كالاستقامة، والصدق، والشجاعة، وروح المبادرة، والتضحية، والاقتصاد في الإنفاق، والاتزام بالوقت؛ لذا يعد المجتمع الياباني مبنياً على التمسك بالأخلاق أكثر من سيادة القانون، وتستند المنظومة الأخلاقية لديهم على التمسك المرن بالتقاليد والعادات مع الانفتاح والأخذ بالتقنية الغربية.
ب - الانضباط الذاتي: فالعامل الياباني يعمل من تلقاء نفسه، ومن غير مراقبة من رئيسه، وهو أقل نسبة غياب عن عمله، ويقوم عادة بالعمل الإضافي متطوعا ومن غير أجر، ومن أجل تحقيق الانضباط الذاتي للأفراد توفر المؤسسات اليابانية الأجواء والظروف التي تساعد على تحقيق الرضا الوظيفي، وجعل العاملين شركاء بامتلاك أسهم في المؤسسة، إضافة إلى ضمان الوظيفة مدى الحياة.
جـ - تأكيد قيمة العمل بروح الفريق الواحد والمسؤولية الجماعية أكثر من المسؤولية الفردية.
د - غرس الولاء والانتماء للوطن، إذ تعد الراية اليابانية والإمبراطور الرمزان اللذان تلتف حولهما الأمة اليابانية، ويتم التركيز على ذلك في مراحل التعليم والتدريب جميعها في المؤسسات اليابانية.
هـ - الحوافز المعنوية التي تشكل دافعاً للعمال الإداريين لبذل المزيد من الجهد في العمل
و - الثقة والتدريب المستمر للعاملين، ما يؤدي إلى ثقة كل فريق في كفاءة الفريق الآخر ومهامه، ومن ثم التعاون والتكامل بين الأطراف جميعها.
ز - احترام الوقت والشعور بأهميته، كالالتزام بالمواعيد واستثمار الوقت.
2 -التعليم في اليابان:
يعد النظام التعليمي في اليابان من بين أفضل الأنظمة التعليمية في العالم، وبدأ الاهتمام به منذ بداية عصر النهضة في عام 1868م، وطبق النظام التعليمي الإلزامي منذ عام 1900م، وجُعِل في أربع سنوات، من سن السادسة وحتى العاشرة، وبلغت نسبة الأطفال الذين يتلقون تعليمًا إلزاميًا في عام 1907م نحو(99%) من مجموع الأطفال اليابانيين في ذلك الوقت.
ومن مظاهر تطور التعليم في اليابان ما يأتي:
أ - المكانة الاجتماعية الرفيعة للمعلم, فبالإضافة إلى مهنة التدريس يعد المعلم مصلحًا اجتماعياً يساعد على غرس القيم والأخلاق، وحل المشكلات لدى طلابه.
ب - التركيز على الأنشطة اللامنهجية التي تدفع الطالب إلى الابتكار والاختراع، والبحث عن كل ما هو جديد، وبذل الجهود لتحويل التعليم إلى تدريب على التفكير بدلًا من الحفظ والتلقين.
جـ - الحفاظ على منظومة القيم الأخلاقية اليابانية: فبالرغم من تأثر اليابان بتكنولوجيا الغرب والتفوق عليها إلا أنها لم تسمح للعادات الغربية أن تغزو قيمها وأخلاقها، فلا تزال التربية اليابانية لها طابعها المميز الذي لم يتأثر بهذه العادات.
د - ارتفاع نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم العام والتعليم العالي والبحث العلمي، حيث يبلغ حجم الإنفاق على التعليم العام قرابة (9,4%) لعام 2014م من إجمالي الإنفاق الحكومي، حتى إن اليابان رفعت شعاراً يدعو إلى إنشاء مرافق تعليمية قبل إنشاء أي مدرسة مثل: الملعب، والمسبح، وصالة الموسيقى، والمكتبة، وصالة الاجتماعات والمختبرات... إلخ.
3 - التنمية الاقتصادية في اليابان:
تمكن الاقتصاد الياباني من النهوض سريعًا بعد الحرب العالمية الثانية، ففي أواخر الخمسينيات من القرن العشرين بلغ متوسط معدلات النمو الاقتصادي السنوي قرابة (10%)، واستمر مدة تزيد على عشر سنوات، ويعد ذلك إنجازًا لم تصل إلى مستواه أية دولة من الدول العظمى، وبحلول الستينيات من القرن نفسه كان اليابانيون من أكثر الشعوب شعورًا بالرخاء، وتزايد الإقبال على الاستهلاك.
ومن العوامل التي ساعدت على ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي للبلاد:
أ - التطور الصناعي والتجاري:
ففي نهاية الستينيات من القرن العشرين أصبحت اليابان الشريك التجاري الرئيس مع أغلب دول العالم، وأغرقت الأسواق العالمية بأجهزة الراديو والكاميرات والتلفاز وغيرها من السلع الصناعية.
وفي نهاية السبعينيات من القرن العشرين امتد التفوق الياباني في التصنيع إلى كل المجالات تقريبًا، فتفوقت صناعة بناء السفن في اليابان، واضطرت الدول الغربية إلى رفع إجراءات الحماية الجمركية لحماية صناعاتها من المنتجات اليابانية، وسرعان ما أغرقت اليابان الأسواق الأمريكية بسيارات متينة الصنع، وزهيدة الثمن، وأقل استهلاكًا للوقود.
وفي الثمانينيات من القرن العشرين بدأت صناعات يابانية جديدة تفرض نفسها في الأسواق العالمية كأجهزة الكمبيوتر والإنسان الآلي، وغيرها من الصناعات الإلكترونية، وآلات النسخ والكيماويات الصناعية وغيرها.
ب - ارتفاع إنتاجية العامل الياباني: حيث تتفوق على معدل إنتاجية العامل في أي مكان في العالم.
جـ - انتهاج اليابان سياسة السلام والاحتفاظ بموقف الحياد، وتجنب النزاعات والصراعات الدولية.
د - تعديل السياسات الاقتصادية لمواجهة الأزمات العالمية، فمثلاً اعتمدت السياسة الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية على استصلاح الأراضي الزراعية لتوفير الغذاء للسكان.
هـ - التعاون بين القطاعين العام والخاص، فالحكومة هي المسؤولة عن تهيئة الظروف والمناخ العام للنشاط الاقتصادي، والقطاع الخاص يكون مسؤولاً عن زيادة الإنتاج.
و - استيراد اليابان لمصادر الطاقة بكميات كبيرة من الفحم والبترول ذي الجودة العالية.
ز - زيادة الإنتاج الزراعي، واستصلاح الأراضي، ورفع كفاءتها الإنتاجية عن طريق تحسين نوعية التربة، وتطبيق التكنولوجيا في الزراعة على نطاق واسع.
سادسًا : التحديات التي تواجه اليابان
حافظت اليابان على تفوقها الاقتصادي طوال السنوات الماضية بفضل سياساتها القائمة على التخطيط المنظم، ورسوخ فلسفة التحدي لدى اليابانيين، إلا أن أنه توجد بعض التحديات التي تواجه البلاد وتسعى للتغلب عليها مثل
- تلوث البيئة.
- وضآلة المصادر الطبيعية؛ ما يجعلها أكثر ارتباطا بالدول الخارجية، كالدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية والصين.
- إضافة إلى تحدي الأمن الاجتماعي المتمثل بانخفاض عدد السكان نتيجة سياسة تنظيم النسل.
- ومظاهر الفقر لدى بعض الفئات ممن هم في سن العمل، نتيجة توجيه جزء كبير من الرعاية الاجتماعية نحو كبار السن.